الاثنين، 13 ديسمبر 2010

المقدس .. ما هو ومن قدسه؟ - كـامل النجـار



كلمة المقدس مشتقة من الفعل "قدّس" "يقدّسُ" فهو "مقدّسٌ". فما هو التقديس؟ يقول المنجد: ( قَدّسَ الله فلاناً: طَهّره وبارك عليه. وقَدّسَ الرجلُ الله: نزّهه ووصفه بأنه قُدّوساً. تقدّس: تطّهر. القُدس: أورشليم. روح القدس عند النصارى: الأقنوم الثالث من الأقانيم الإلهية. روح القدس عند السلمين" الملاك جبريل. القداسة: الطهارة. القُدّوس: من أسماء الله الحسنى، أي المنزه عن كل نقص. القديس: الفاضل الحاصل على تمام الصلاح والقبول عند الله). فالقداسة إذاً حالة من الطهر يُسبغها الإنسان على الإله أو الإله على الإنسان. ولكن ما هي هذه الطهارة التي يُسبغها الإنسان على الإله؟ المنجد يقول (الطهارة: عكس النجاسة). والنجاسة هي القذارة. فإذاً نستطيع أن نقول إن القداسة هي حالة غياب القذارة عن الإله أو الإنسان.



يقول عالم الاجتماع الفرنسي اميل ديركهايم Emile Durkheim في كتابه "الأشكال البدائية للحياة الدينية" Elementary Forms of Religious Life (إن الأديان بدأت بعبادة الطواطم. هذه الطواطم كانت تُمثل للإنسان البدائي روح أحد أو كل الأسلاف المهمين الذين فقدهم ولم يستطع تعويض كل العلم والخبرة التي كانت عندهم. ولذلك اتخذ هذا الإنسان البدائي طوطماً يكون سكناً لروح الأسلاف عندما تعود إليهم لتساعدهم على التغلب على مشاكل الحياة من مرض أو حوادث طبيعية كالزلزال مثلاً.) وإذا كانت روح الأسلاف سوف تأتي إلى ذلك الطوطم، فلا بد أن يُحفظ ذلك الطوطم نظيفاً ليليق بروح الأسلاف وإلا لن تحضر الروح. فإذا أصبح الطوطم نظيفاً طوال الوقت، فهو طاهر أي ليس به قذارة تُنفّر الأرواح. ولأن الإنسان البدائي كان يعتبر دم الحيض قذارة، فقد منع المرأة من لمس الطوطم في أيام حيضها حتى لا تُنجّسه. وبما أن المرأة معرضة لهذه النجاسة كل شهر، فلا يجوز أن تكون مسؤولة عن الطوطم. لذلك أصبح الرجل مسؤولاً عنه. ولأن الإنسان البدائي لم يكن يعرف متى تحضر الأرواح أختاروا رجلاً يكون في خدمة الطوطم طوال الوقت ليحفظه نظيفاً للأرواح التي ربما تحضر في أي لحظة. وأصبح هذا الرجل كاهناً يحفظ بعض الترانيم والأغنيات التي تساعد على حضور الأرواح. وكان واجباً على الكاهن أن يكون نظيفاً طاهراً كل الوقت كما يكون الطوطم. وبالتدريج أصبح الطوطم النظيف الطاهر وكاهنه الطاهر مقدسين، والقداسة لا تعني أكثر من الطهارة والنظافة، ولكنها طهارة معنوية، وليسن بالضرورة طهارة بدنية.


ثم اكتشف الكاهن أن الأرواح لا تأتي في كل مرة يردد فيها ترانيمه،ربما لأن الطوطم كان مكشوفاً لكل الناس، وربما أن ضوضاءهم تمنع الأرواح من القدوم. فكان لا بد من بناء مكان معيّن يُحفظ فيه الطوطم وتوضع فيه طلاسم وأحجار نظيفة تساعد الكاهن في استقدام الأرواح. فأصبح هذا المكان معبداً. وبما أن الكاهن يحفظه نظيفاً ولا يسمح لأحد بدخوله إلا في أوقات معينة، أصبح هذا المعبد النظيف طاهراً ومقدساً. ولزيادة فاعلية الترانيم في إحضار الأرواح اخترع الكاهن بعض الطقوس Rituals التي يجب أن يقوم بها الناس بقيادة الكاهن في المناسبات التي يريدون فيها استقدام الأرواح لمساعدتهم.


وتعريف كلمة Rituals هو: شعائر، طقوس احتفالية، مراسيم أو مناسك. و من خصائص الطقوس أنها حركات مكررة بترتيب معيّن ولا تخدم غرضاً فعلياً (Culture, Health and Illness. Cecil G. Helman, 1998, p224)


فمثلاً لو نظف الإنسان أسنانه كل صباح وكل مساء بمعجون أسنان وفرشاة، لا يُعتبر هذه من الطقوس لأنه يؤدي وظيفة فعلية، وهي منع تسوس الأسنان. ولكن لو أصر هذا الشخص كل صباح ومساء على لبس ربطة عنق حمراء واختيار فرشاة حمراء والوقوف أمام المرآة لينظف أسنانه، فيصبح هذا من الطقوس لأن لون الفرشاة وربطة العنق والوقوف أمام المرآة لا يخدم وظيفة فعلية. وعليه تصبح الطقوس التي اعتاد الكاهن على القيام بها والترانيم وتوقيتها، طقوساً لا تخدم وظيفة فعلية، ولكنها تزيد من هيبة المعبد والكاهن في عيون أتباعه. ومع ازدياد هيبة الكاهن ومعبده أصبحت الطقوس والأحجار وكل ما في المعبد مقدساً يليق بأرواح الأسلاف. وهذه الطقوس لها مهمة أخرى، وهي حفظ التراث لمجموعات من البشر كانت أمية لا تعرف الكتابة لتحفظ تراثها. فالترانيم والأدعية وتكرار بعض الحركات أو الأفعال بتسلسل لا يتغير تساعد على حفظ المعرفة الجمعية لتلك المجموعات من البشر. وترتيب الحركات في الطقوس لا يتغير أبداً. فمثلاً في جنوب إفريقيا يعالج الحكيم القبلي الأمراض بثلاثة أدوية: أسود، أحمر وأبيض. والمهم هنا هو لون الدواء وليس محتواه، فاللون له إيحاءات خاصة لتلك المجموعة من البشر. فاللون الأسود يرمز إلى الظلام والليل والشر، بينما اللون الأحمر يرمز إلى الحد الفاصل بين شيئين مثل الحياة والموت، لأن الدم أو النزيف يؤدي إلى موت الإنسان. أو دم الحيضة الأولى التي تفصل بين البنت والمرأة. بينما اللون الأبيض يرمز إلى ضوء النهار والرؤية واختفاء الشياطين. ولذلك لا بد من تناول الأدوية الثلاثة بهذا الترتيب. الأسود أولاً ليطرد الأرواح الشريرة، ثم الأحمر ليقوي الجسم ويجعله في مرحلة التغيير وقابل للانتقال إلى طور الشفاء، ثم الأبيض ليكمل للجسم معافاته. ولو تغير هذا التسلسل فلن ينفع العلاج. وقد تكون الطقوس في شكل كلمات أو موسيقى أو أغاني أو حركات. ولهذه الطقوس مفعول قوي على بعض النفوس التي تقبل الإيحاء أكثر من غيرها. ويظهر هذا جلياً في حفلات الزار أو في احتفالات الصوفية التي يصاحبها ضربٌ منتظم على الطبول يؤدي ببعض الناس إلى الدخول في حالة شبه غيبوبة أو Trance


ثم تقدم الإنسان ووصل مرحلة التعددية الإلهية في السماء، فجعل هؤلاء الآلهة في السماء مقدسين إذ أنهم أبعد ما يكونون عن القذارة التي على الأرض. ففي الديانة الجرمانية التي كانت منتشرة في ألمانيا ودول إسكاندنافيا قبل الميلاد، بنى الناس معابد لآلهة السماء وملأوها بالأوني الفخارية والحجارة وجعلوا المعابد مقدسة وكذلك محتوياتها، لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهة السماء تنزل إلى الأرض في أوقات معينة لتساعدهم وتستجيب إلى دعواتهم. وكان حارس المعبد كاهناً مقدساً. ثم زادوا قليلاً ودفنوا موتاهم بالقرب من المعبد وبالتالي أصبحت المقابر مقدسة لارتباطها بالمعبد. وتفكير هؤلاء الناس لا يختلف كثيراً عن تفكير الإنسان البدائي الذي كان يتوقع زيارة الأرواح.


بحلول القرن الخامس قبل الميلاد تطورت الديانة الإغريقية (الهيلينية) وأصبحت كلها أسراراً يحفظها الكهان فقط، لأن لغتها أصبحت لغة متخصصة لا يعرفها غيرهم. فزاد هذا من تكريم وتقديس الكهان لدى العامة الذين أصبحوا لا يعرفون من ديانتهم إلا ما يقوله لهم الكاهن. وكان لا بد لمن يريد أن يصبح كاهناً أن يبدأ بحفلة تدشين تتضمن تطهيره من الأدناس وتعلم أهمية الأشياء المقدسة في المعبد ثم تعلم كيف يستقبل العلم الخفي أو الوحي من الآلهة في السماء. وكل هذه الأشياء أصبحت مقدسة وإلهية ولها شعائر يقوم بها الكاهن في ترتيب خاص لا يتعداه. وأصبح الكاهن يلبس ملابساً خاصة تفصله عن العامة من الناس.


ثم جاءت الديانة اليهودية فجعلت الألواح التي أعطاها الإله يهوه لموسى، مقدسة، وكذلك التابوت الذي احتوى على الأحجار المقدسة وبعض الأشياء الأخرى. وجعل الإله يهوه هارون وأبناءه حفظة هذا التراث المقدس. وطوال تيههم في الصحراء كان هارون وقبيلته مسؤولين عن حمل التابوت والخيمة الخاصة التي تُنصب له كلما حطوا رحالهم. ومن ثم أصبح هارون وخيمة التابوت وأبناؤه مقدسين. وعندما استقروا في أرض الميعاد حثتهم التوراة على إحراق معابد القبائل الفلسطينية وجعل معابد اليهود هي الوحيدة المقدسة. ومنعت اليهودية المرأة من الاشتغال بالمعابد أو الكتب المقدسة. وحتى إله بني إسرائيل كان مولعاً بالمقدس فقال لموسى: (1 وَقَالَ -لرَّبُّ لِمُوسَى: 2 قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي ) (سفر الخروج، الإصحاح 13). فالبكر من الناس ومن البهائم أصبح مقدساً للإله يهوه. ثم زاد الإله يهوه في طلباته فقال لموسى إذا نذر شخص أن يعتكف للإله يهوه، فيجب أن يكون طاهراً قبل أن يدخل المعبد ليعتكف ولا يقترب من الموتى لأن الجثمان الميت قذر، ولا يقترب من الخمر ولا يحلق رأسه، فقال: (3 فَعَنِ الخَمْرِ وَالمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ وَلا يَشْرَبْ خَل الخَمْرِ وَلا خَل المُسْكِرِ وَلا يَشْرَبْ مِنْ نَقِيعِ العِنَبِ وَلا يَأْكُل عِنَباً رَطْباً وَلا يَابِساً. 4 كُل أَيَّامِ نَذْرِهِ لا يَأْكُل مِنْ كُلِّ مَا يُعْمَلُ مِنْ جَفْنَةِ الخَمْرِ مِنَ العَجَمِ حَتَّى القِشْرِ. 5 كُل أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لا يَمُرُّ مُوسَى عَلى رَأْسِهِ. إِلى كَمَالِ الأَيَّامِ التِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّساً وَيُرَبِّي خُصَل شَعْرِ رَأْسِهِ. 6 كُل أَيَّامِ انْتِذَارِهِ لِلرَّبِّ لا يَأْتِي إِلى جَسَدِ مَيِّتٍ. 7 أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ لا يَتَنَجَّسْ مِنْ أَجْلِهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ لأَنَّ انْتِذَارَ إِلهِهِ عَلى رَأْسِهِ. 8 إِنَّهُ كُل أَيَّامِ انْتِذَارِهِ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ. 9 وَإِذَا مَاتَ مَيِّتٌ عِنْدَهُ بَغْتَةً عَلى فَجْأَةٍ فَنَجَّسَ رَأْسَ انْتِذَارِهِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ يَوْمَ طُهْرِهِ. فِي اليَوْمِ السَّابِعِ يَحْلِقُهُ) (سفر العدد، الإصحاح السادس). فليس هناك أي منطق في جعل الخمر أو العنب نجساً أو جعل شعر الرأس نجساً إذا مات شخص بالقرب من الشخص المعتكف. وكيف يصبح الإنسان طاهراً إذا حلق شعر رأسه في اليوم السابع؟ فالتوراة لم تشترط الغُسل للتطهير وإنما حلق شعر الرأس فقط، مما يؤكد أن الطهارة المقصودة في المقدس هي طهارة معنوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق